إنما نعني هنا بالكفر، الكفر الطارئ الذي يعبر عنه بالردة، إذ تلك هي التهمة التي يلصقها بحكام المسلمين، أولئك الذين يبررون الخروج عليهم.
ولننبه هنا إلى الأسباب الكلية التي تستوجب الردة، بقطع النظر عن الجزئيات الكثيرة التي تندرج في داخلها.
إن موجبات الردة لا تخرج عن أن تكون من نوع الأقوال أو الأفعال أو ما يدخل في نطاق السخرية والتحقير.
أما ما يستوجب الردة من الأقوال، فهو كل ما كان تعبيرًا صريحًا عن إنكار ركن من أركان الإسلام أو الإيمان، أو عن إنكار حكم من الأحكام الإسلامية المعروفة من الدين بالبداهة والضرورة، أي بحيث يستوي في معرفته واليقين به العالم والجاهل من عامة الناس.
وأما ما يستوجبها من الأفعال، فهو كل فعل يحمل دلالة قاطعة على شيء يتناقض مع ركن من أركان الإيمان أو الإسلام، كالسجود لصنم، وكالتزيي بزي يحمل دلالة دينية معروفة لدى الناس جميعًا تناقض الإسلام مناقضة حادة.
وأما ما يستوجبها من السخرية والازدراء أو الاحتقار، فمآله إلى أن يكون داخلا في زمرة الأقوال أو الأفعال، ولكن العلماء أفردوه بنوع ثالث، لعدم توفر الجد الذي من شأنه أن يتوافر في النوعين السابقين.
وضابط السخرية أو التحقير المستوجبين للكفر أو الردة، أن يسخر من شيء من أركان الإسلام أو الإيمان، أو من أي حكم من الأحكام الإسلامية الثابتة والمعروفة للجميع بالبداهة والضرورة، أو أن يحتقره بوسيلة واضحة من وسائل التحقير، كأن يسخر من الصلاة أو الحج أو الزكاة أو من الجنة والنار بوسيلة قاطعة في الدلالة على السخرية، أو أن يحتقر القرآن احتقارًا واضحًا.
فتلك هي موجبات الردة وأنواعها: وإذا تبينت القاعدة الكلية في ذلك، فإنك لن تتيه في جزئيات الأمثلة الكثيرة وبوسعك أن تصنفها طبقًا لما أوضحناه، فيتبين لك ما كان منها موجبًا لكفر وما لم يكن منها موجبًا لذلك.
ولا نعرف لدى العلماء خلافًا في هذا الذي أوضحناه، اللهم إلا ما هو معروف من أمر الخوارج وتكفيرهم بارتكاب المعاصي..وهم خارجون في هذا عن إجماع الملة متنكبون عن صراط الله عز وجل.
فهل يرعى الخارجون اليوم على حكامهم، أو الذين يحفزون المسلمين ويهيجونهم للخروج على حكامهم وقتالهم، هذه القاعدة التي لا نعلم خلافا فيها، بصدد مواقفهم التي يقفونها من الحكام؟
إن القاعدة التي أوضحناها، لا يمكن تطبيقها إلا على آحاد الناس، فردًا فردًا كلاً على حدة.. أما هؤلاء فأحكامهم جماعية دائمًا، وتكفيرهم موجه للعموم لا للأفراد.
وقرار التجريم بالكفر الجماعي لهؤلاء الحكام، يستند عندهم إلى عدم الحكم بما أنزل الله، سواء في حق أنفسهم أو في حق شعوبهم، ونظرًا إلى أن الله عز وجل قد قال: ﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون﴾ [المائدة: 44]، فقد أصبح جميع حكام البلاد العربية والإسلامية كفارًا.
إن هذا القرار ينطوي على جنوحين عن الحق الذي لا نعلم فيه خلافا لدى المسلمين، عدا الخوارج كما أوضحنا:
أولهما: التكفير الجماعي دون تبين لموجبات الكفر عند كل فرد فرد على حدة.
ثانيهما: اعتبارهم مجرد الحكم بخلاف شرع الله كفرًا. ومن الواضح أن ذلك لا يدخل في أي من المكفرات القولية أو الفعلية أو الاستهزائية التي سبق بيانها.
إن عدم حكم المسلم بشريعة الإسلام، قد يكون بدافع تكاسل، وقد يكون بدافع ركون منه إلى شهوة من شهواته أو مصلحة من مصالحه الدنيوية، وقد يكون بدافع إنكار منه لشرع الله عز وجل. ولا يستبين أحد هذه الدوافع إلا بالبينة والبرهان، فإن لم يوجد دليل على واحد منها، فالاحتمالات الثلاثة قائمة وإذا وقع الاحتمال كان افتراض دافع معين منها دون غيره تحكما، ومن ثم يسقط الاستدلال به..ويبقى الأصل معمولا به، وهو الإسلام، بموجب قاعدة: الأصل بقاء ما كان على ما كان.
إننا لو جارينا هؤلاء الناس، فأطلقنا الحكم بكفر كل من حكم بغير شرع الله عز وجل، لسرى حكم التكفير هذا على كثير من الآباء والأمهات، وعلى كثير من ذوي السلطة والقيادة الجزئية في مؤسسات أو مصانع أو معاهد أو أحياء، إذ ما أكثر الذين يتنكبون من هؤلاء جميعا عن الحكم بشرع الله، ويحملون رعاياهم إن في البيوت أو المؤسسات أو المعاهد أو الأسواق والأحياء، على اتباع أحكام أخرى غير أحكام الله عز وجل.
بل إن إطلاق هذا الحكم، يقتضي الحكم بكفر كل مرتكب لمعصية في حق نفسه، إذ هو لم يزج نفسه في المعصية إلا بموجب حكم حكم به على نفسه، ألا ترى أن الذي يذهب إلى الحانة ويطلب من النادل أن يأتيه بزجاجة خمر، قد أدلى من خلال طلبه هذا بحكم، وأنه حكم بغير ما قد أنزل الله؟
فهل يفتي أو يقضي هؤلاء بكفر هؤلاء الناس جميعًا؟!
إن هذا القضاء لو صدر منهم، لاقتضى ذلك تكفير كل عاص حكم على نفسه بغير شرع الله، وإذن لآل حال كل عاص إلى الكفر!
ومن المعلوم أن هؤلاء الناس، أي الذين يحكمون على قادة المسلمين بالكفر، لا يعممون حكمهم هذا في حق أمثالهم من الناس جميعًا.
فما سمعنا منم أحدًا يكفر والدًا أمر ابنته بخلع الحجاب، أو أمر ابنه بالعمل في مصرف ربوي، أو يكفر تاجرا أمر أجيره أو شريكه بالغش في المعاملة، أو بممارسة عقد غير شرعي، وإنما التكفير لهذا الموجب، موجه إلى الحكام والقادة فقط..!
ولا شك أن هذا التفريق الذي لا معنى له، إنما هو نتيجة حكم اعتباطي يقود إليه التشهي، والرغبة المزاجية في التكفير أو عدمه، ونسأل الله تعالى أن يحررنا من حاكمية الشهوات والأهواء.
والمهم أن نعود بعد هذا فنعلم ما هو مقرر في سائر كتب العقيدة والفقه من أن مدار الأمر في أصل كل من الكفر والإسلام على الاعتقاد، فإذا ترتب على القول أو الفعل حكم بالتكفير، فذلك لأن القول أو الفعل يحمل دلالة قاطعة على اعتقاد مكفر. فأما إن لم تكن له على ذلك دلالة قاطعة بينة، بل تعددت الاحتمالات الممكنة، لم يجز ترتيب حكم الارتداد أو الكفر عليه، وانحصرت دلالة ذلك القول أو الفعل عندئذ على الفسوق والعصيان، مع إحالة باطن الأمر إلى الله عز وجل.
وقد أوضح الإمام أحمد هذه الحقيقة التي لا نعلم فيها خلافًا. والإمام أحمد أورع أئمة المسلمين في هذا وأكثرهم حيطة لدين الله عز وجل، فهو الذي يقول فيما يرويه عنه ابن قدامه: «من قال الخمر حلال، فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه. وهذا محمول على من لا يخفى على مثله تحريمه لما ذكرنا. فأما إن أكل لحم الخنزير أو ميتة أو شرب خمرًا، لم يحكم بردته بمجرد ذلك، سواء فعله في دار الحرب أو دار الإسلام، لأنه يجوز أن يكون فعله معتقدًا تحريمه، كما يفعل غير ذلك من المحرمات» ( ).
إذن، فقد تضح أن الخروج على قادة المسلمين وحكامهم، خروج محرم، وافتئات على شرع الله وأمره، فضلا عن أن يكون مباحا، فضلا عن أن يسمى جهادا في سبيل الله، ما لم يعلن واحد من هؤلاء القادة كفرًا صريحًا بالله عز وجل، بمقتضى قاعدة التكفير التي تم بيانها.