ربما يشكل على هذا الكلام حديث النبي ﷺ الذي يقول فيه: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله» [رواه الشيخان].
لقد كان الحديث مشكلاً حقًا لو كان نصه هكذا: «أمرت أن أقتل الناس حتى...» إذ هو يتناقض عندئذ مع سائر الآيات والأحاديث الكثيرة الأخرى الدالة على النهي عن القسر والإكراه.
أما التعبير بـ«أقاتل»، وهي الكلمة التي عبر بها رسول الله ﷺ فيما أجمع عليه الرواة، فليس فيها لدى التحقيق ما يناقض النصوص والدلائل، ومن ثم فليس في فهم الكلمة أي إشكال.
وبيان ذلك أن كلمة «أقاتل» على وزن «أفاعل»: تدل على المشاركة، فهي لا تصدق إلا تعبيرًا عن مقاومة من طرفين، بل هي لا تصدق إلا تعبيرًا عن مقاومة لبادئ سبق إلى قصد القتل. فالمقاوم للبادئ هو الذي يسمى مقاتلاً، أما البادئ فهو أبعد ما يكون عن أن يسمى مقاتلاً، بل هو في الحقيقة يسمى قاتلا، بالتوجه والهجوم أو بالفعل والتنفيذ، إذ لا ينشأ معنى الاشتراك إلا لدى نهوض الثاني للمقاومة والدفاع.
ألا ترى أنك تقول: «لأقاتلن هؤلاء على ممتلكاتي، أو على عرضي»، فلا يفهم أحد من كلامك هذا إلا أنك عازم على مقاومة العدوان منهم على مالك أو عرضك، فقتلك لهم إنما يأتي بعد توجههم إليك بالعدوان.
إذن فما هو معنى الحديث على ضوء هذا الذي أوضحناه؟
معناه: أمرت أن أصد أي عدوان على دعوتي الناس إلى الإيمان بوحدانية الله، ولو لم يتحقق صد العدوان على هذه الدعوة إلا بقتال المعادين والمعتدين فذلك واجب أمرني الله به ولا محيص عنه.
وهذا من قبيل قوله ﷺ يوم الحديبية: «..وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي». [رواه البخاري]. ولعلك تعلم أن رسول الله ﷺ قال هذا لبديل بن ورقاء، وهو يدعو قريشًا إلى السلم ويحذر قريشا من مواصلة الحرب التي قد أنهكتهم.
فما معنى قوله ـ والحالة هذه ـ فإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا؟ إن كلامه هذا نص قاطع في الدلالة، على أنه ـ وهو يجنح بهم إلى السلم ـ سيقابل عدوانهم القتالي بالمثل إن هم أبوا إلا ذلك. فهذا المعنى هو ذاته المقصود بقوله: «أمرت أن أقاتل الناس..».
وقد حكى البيهقي عن الإمام الشافعي قوله: «ليس القتال من القتل بسبيل، وقد يحل قتال الرجل ولا يحل قتله».
وقد نبه إلى هذا المعنى وأهمية الوقوف عليه الحافظ ابن حجر في كتابه فتح الباري (1/58)، فقال بصدد شرحه لهذا الحديث ما نصه: «وسئل الكرماني هنا عن حكم تارك الزكاة، وأجاب: بأن حكمها ـ أي حكم تارك الصلاة وتارك الزكاة ـ واحد، لاشتراكهما في الغاية. وكأنه أراد في المقاتلة، أما في القتل فلا. والفرق أن الممتنع عن إيتاء الزكاة يمكن أن تؤخذ منه قهرًا، بخلاف الصلاة. فإن انتهى إلى نصب القتال ليمنع الزكاة قوتل، وبهذه الصورة قاتل الصديق مانعي الزكاة».
ثم قال الحافظ ابن حجر: «وعلى هذا ففي الاستدلال بهذا الحديث على قتل تارك الصلاة نظر، للفرق بين صيغتي: «أقاتل» و«أقتل» والله أعلم. وقد أطنب ابن دقيق العيد في شرح العمدة في الإنكار على من استدل بهذا الحديث على ذلك ـ أي على قتل تارك الصلاة ـ وقال: لا يلزم من إباحة المقاتلة إباحة القتل؛ لأنه المقاتلة مفاعلة تستلزم وقوع القتال من الجانبين على ذلك».
فإذا كان الاستدلال على قتل تارك الصلاة بهذا الحديث باطلاً ـ كما يقول ابن حجر وغيره ـ لأن رسول الله ﷺ عبر في حقه بكملة المقاتلة لا القتل. فكيف يصح الاستدلال بالحديث ذاته على قتل من أبى الدخول في الإسلام، مع أن تارك الصلاة عمدًا يتحمل عهدة التكليف بمقتضى كونه مسلمًا كما يتحمل عهدة الإذعان لعقوبات الحدود، أما غير المسلم فلا يتحمل عهدة أي شيء من ذلك؟!..
إذن فهذا الحديث لا يشكل أي معارضة أو عثرة في الطريق إلى ما قدر قررناه وعلمناه من أن الدعوة إلى الإسلام يجب أن تتم في نطاق الاختيار وحرية اتخاذ القرار.
ومن هنا كان الرأي القائل بأن الدعوة إلى الإسلام عن طواعية واختيار، قد نسختها آية السيف وحديثه، رأيًا ضعيفًا، بل هو أقرب إلى البطلان منه إلى الضعف.